الاثنين، 21 ديسمبر 2009

ستارة جدتى

أستيقظت فجأة دون سبب ، لم أكن أحلم بكابوس ، اعتقد أننى لم أحلم بإي شيء على الإطلاق ، نظرت إلي المنبه بجانبي كانت الساعة الرابعة.. مسحت قطرات العرق التي تسيل على جبيني ، قمت وانا مدرك تماما أنها حالة من حالات التوتر والأرق التي تهاجمني منذ فترة لا بأس بها ، اتجهت إلي المطبخ.

لا أعرف ماذا أريد؟

توقفت لحظة حائر ، ولكن يدي عالجت الموقف وأشارت نحو البراد، تذكرت أن ريقي جاف، تناولت زجاجة المياة المثلجة شربت كما لم أشرب من قبل لدرجة أن الماء من قوة أندفاعه قفز من فمي على قميصي وعلى بنطالي ، نفضت بأصبعي قطرات المياه المثلجة ، طعم المياه غير طبيعي

لا أدري لماذا؟

قلت في نفسي " هي جات على الميه" ، تركت المطبخ وتوقفت في الصالة، أقف وحيدا في المنزل ، تذكرت أمي وكم كانت تؤنس وحدتي تلك، ولكنها ذهبت كما ذهب كل شيء جميل ..

أرتميت على الاريكة ضغطت على (ريموت) التلفاز، أخذت أشاهد القنوات المملة التى تعرض كل ما هو مكرر وسخيف وملل ، ومن الغريب أنني أعرف أنه مكرر وسخيف وممل ولكني مازلت أكرر مشاهدة تلك السخافة وذلك الممل

ولا أدري إيضا لماذا؟

أمسكت تليفوني المحمول ....

القائمة --- الرسائل --- صندوق الوراد ..

" حبيبي انتي واحشني أوي"

" يا أحلي حاجة في دنيتي ..بلاش تتاخر في الرد عليا "

" أنا بحبك أوي ومقدرش أستغني عنك"

" وانا كمان يا حبيبي بحبك أوي أوي أوي "

" حبيبي أنا مش قادرة أعمل حاجة، أنا لوحدي ، أنت فين؟"

" متزعلش يا أغلي ما في عمري ، أنا هفضل ليك"

"أنا ....أنا أتخطبت الجمعة اللى فاتت ..الوداع "

صندوق الوارد --- الرسائل --- القائمة

تركت التليفون بجانبي ، تابعت برنامج سخيف على قناة فضائية ، فكرته مقلدة من برنامج أمريكي مثل كل البرامج الاخري ، برنامج مسابقات ، مسلسل عربي ، فيلم أجنبي ، فيديو كليب ، درس ديني ، فيديو كليب أجنبي .

أحسست بان شاشة التلفاز تبهت ، أو شيء ما يحدث في الإرسال، فركت عيني ثم نظرت ، لاشيء !...

عدت مرة أخري إلي سريري ، حملقت في سقف الغرفة ، عادت بي الذكريات إلي أشياء مختلطة ، الجامعة .. المدرسة .. الجيش .. العمل .. وفاة أبي ... وفاة أمي .

أغلقت عيني وجدت نفسي ابن الخامسة أتسلق ستارة جدتي المعلقة على النافذةا فوق سريرها النحاسي الكبير ، كنت لا أحب ستارتها ، ولكني كنت أتعلق بها كي أري الشارع ، وأتابع لعب الاولاد في الحارة، وما يجعلني أكرهها أكتر أنني أشم رائحتها القديمة المعتقة ، ومن تأرجحي ولهاثي يلمس لساني جلدها الخشن المترب، لم أستسيغ طعمها..ولكني كنت مضطر فأنا أهوي مشاهدة الحارة وأهلها .. جدتي تراني أتعلق في ستارتها تزعق وتصرخ وتأتي لكي تضربني .

بدأ يوم جديد وأنتهي بصعوبة يوما أخر ممل ، وجدت نفسي استقر على مكتبي في العمل .. أنظر باتجاه مديري أجده يحذرني من بطيء في العمل وسرحاني الدائم.

أجد زميلتي تمسك (ماج النسكافيه ) وتمليء فمها بالسائل الاسود المرير، وتمسك إيضا أذن زميلتنا الثالثة وتملئها بالحديث الفارغ عن هذه وهذا وهؤلاء ، أنى أسمعها.. أسمع كل حرف مهما خفضت من صوتها ، وسمعتها تتحدث عني أيضا ، وعن هدوئي الزائد عن اللزوم وعن تكشيرتي الملازمة لي أينما ذهبت .ولكني لم أبالي .

أحسست بالورق في يدي خشن كقماش ستارة جدتي .. تناولت كوب الماء امامي ، يا لها من مياه غريبة مذاقها كستارة جدتي البنية اللون وطعمها المترب القديم .

أمسك ورقة بيضاء خشنة كملمس ستارة جدتي وأكتب . "طلب اجازة "

بصعوبة بالغة وافق مديري، وفك قيود العبودية من على رقبتي وأشار لي بالذهاب ، إلي الحرية ، ولكنه ابتسم ابتسامه صفراء معناها أنني سأعود مرة أخري إليه وبنفسي سأعلق في عنقي أساور العبودية مرة أخري .

عدت إلي منزلي الصامت مثلي ، كل شيء أمامي لونه يتغير وملمسه يتغير ، الرؤية غير واضحة باهتة وكأن أمامي زجاج متسخ ، كدت أنقلب بالسيارة أكثر من مرة قبل انا أصل سالما إلي المنزل.

دخلت غرفتي ، أخرجت من الدولاب علبة كرتونية مربعة ، رأيت صوري وأنا صغير وجدتي تحملني وخلفها الستارة العتيقة ، رأيت صورتي مع والدتي ووالدتي وأنا أرتدي فانلة بيضاء وشورت رصاصي قصير ، وجوارب رصاصية وحذاء أسود لامع .

وفي قاع العلبة رأيت صورة كانت ممزقة ولكني أعدت تجميعها مرة أخري ، وهي صورة صاحبة الرسائل .

قطعت كل الصور التي أنتقل إليها ملمس ستارة جدتي الخشنة .

رأيت كل حيطان الشقة لون الستارة البنية ، لمست شفتي بلساني المتشقق ، لم أكن أحس بهما كل ما أحسسته هو قطعتي قماش خشن معتق .

صعدت إلي سطح البناية العالية تأملت الشمس التي تموت خلف الجبال آخر المدينة ، رأيتها في انفاسها الأخيرة، ولكنها ستأتي غدا وبعد غد، تمنيت أن أكون مثلها أموت وأتجدد في اليوم التالي ، أعتليت سور البناية وقفزت ، لم أري الأرض وهي تقترب ، ولم أسمع صفير الهواء يملأ أذني ، ولم أحس بجسدي وهو يتحطم والدماء تتناثر على الاسفلت الاسود، كل ما أحسست به أننى هربت من ستارة جدتي .

"تمت"

الأحد، 6 ديسمبر 2009

قصة شجرة الهواجس



كنا نري الشجرة من أي مكان في القرية ..كانت عالية و أوراقها باهته، أصفرار اوراقها أكثر من أخضراره ..

لحمها (خشبها) يميل إلي السواد.. سمعنا عنها الكثير من آبائنا .. وهم سمعوا من أجدادنا ..

توجد رواية تقول أن الشجرة والحديقة والبيت ملك لرجل عجوز كان غريب الاطوار يلبس السواد دائما ..وبسبب هيئته الرثة لم يجد سوي النفور والبعد من أهل القرية ..

ولم يجد من يساعده أو حتي يمد له يد العون عند مرضه.. يقولون أن الرجل العجوز مات وهو محتضن الشجرة ..أو هي التي أحتضنته.. لم يجد أهل القرية سوي أن يدفنوا الرجل بجانب شجرته الوحيدة داخل حديقة منزله..

بعدها بسنوات بدأت تلك الظواهر الغريبة تحدث، كان جيران المنزل يهربون ويتركون كل شيء ورائهم .. بسبب ما يحسونه من بغض وكراهية عندما يمرون بجانب الشجرة ..ليس نحوها أنما نحو أنفسهم !!

فقد كان الاخ لا يغضب من اخوه الذي يمشي بجواره إلا عندما يكونا بجوار الشجرة البغيضة ، هما كانوا يسمونها هكذا، والأب الذي يشتهر بالحلم والصبر يضرب ابنائه ويعنفهم أمامها.

ومنذ كنا صغار كانت جدتنا تحكي لنا حكايات مخيفة عن الشجرة .. وأمي عندما تريد أن تدخل الفزع في قلوبنا حتي لا نخرج في الليل ، تذكر قصة الشجرة التى أذا أقتربنا نحوها ستجلعنا نقتل بعضنا البعض..

فهي تولد الكراهية والحقد والبغضاء لدي الانسان، " ولماذا لم يقطعها الكبار يا جدة " قلتها وأنا أضع كفي على خدي .. وجسمي كله متجه نحو جدتي ..

أبتسمت وقد القت نيران المدفأة ظلال هادئة على وجهها الغضن جعلها ملاك تحيطه هالة من النور، مسحت رأسي بيدها وقالت:

" منذ سنوات قبل ميلادك بقليل، حاول رجلان اسمهما "مندور وزهران" فعل ذلك، كانا أكثر الناس شجاعة وأكثرهم ضررا بسبب تلك الشجرة لأنهم أقرب الناس أليها في القرية ، وفي صباح يوم غابت فيه الشمس وغطي الضباب كل شيء، حمل كل منهما فأسه وأتجها نحو الشجرة، ولكنهم أختلفا على من يضرب أول ضربة ، لا نعرف لماذا أشتد النقاش الذي تحول إلي عراك، وخرجنا من المنازل على صرخات زوجاتهم ، ووجدناهم مضرجين في دمائهم تحت الشجرة البغيضة" .

شهقت من الخوف وارتميت في حضنها وأنا ارتعد وقلت

" أنا اكره تلك الشجرة يا جدتي ".

غمغمت :" الكل يشعر بذلك يا حفيدي ، ربما تعاملهم بالمثل " .

******************************************

في صباح يوم مشمس خرجت أنا وأختي الصغيرة إلي المدرسة ، وأخذت أقص لها ما يقولونه عن تلك الشجرة الغامضة .

هزت رأسها وأشارت لي أن أتبعها ، فخرجنا عن طريق المدرسة ، ووجدتها تعرج ناحية المنزل والشجرة السوداء ، صرخت فيها ومنعتها ، تركت يدي وجرت نحو المنزل وأخذت تلتف حول المنزل حتي وجدت فتحة صغيرة في السور الخشبي المتهالك فدخلت منها.

وانا مازالت أصيح محذرا اياها ، فوجئت بها تفتح زجاجة المياة التي تحتفظ بها داخل حقيبتها وتسكب الماء رويدا رويدا حول الشجرة ، التي هُيء لي أن أوراقها تتحرك وتلمع مع كل قطرة مياه تسكبها الصغيرة، ولكن ساقها مازال أسود مكفهر.

خرجت أختي من الحديقة وهي تلهث من فرط إثارتها ، قلت لها بعد أن عنفتها:

" أنك مجنونة كيف تفعلين ذلك ، ألم تخافي على نفسك؟ "

ابتسمت وقالت في خفوت" لا تقل لأحد، أنا أفعل ذلك كل يوم " .

نظرت لها للحظة غير مصدق ، ثم نظرت نحو الشجرة التي طالما أخاف منها، لم أتكلم كلمة واحدة وجذبتها من يدها بعنف واتجهنا إلي المدرسة.

مر اليوم الدراسي، وقد لاحظت أن "شيماء" لم تأتي وهي بنت في مثل سني وتدرس في نفس فصلي ، وعندما خرجنا من المدرسة

وجدنا أناس كُثر وأصوات عالية تزعق وكل هذا يحدث أمام بيت الشجرة ، فقد أصبح المنزل منزلها بعد ممات الرجل العجوز، جريت أنا وأختي لنري ما يحدث.

سمعت من الكبار أن الشجرة جعلت "بهلول" المجذوب يعترض طريق الصغيرة " شيماء" ويوسعها ضربا حتي نزفت ، أرسلوا في طلب الاسعاف.

وجاء "والد شيماء " وأمسك رقبة المجذوب " بهلول " وكاد أن يبطش به ..لولا أن فض الناس بينه وبين المسكين المجذوب ، وصاح أحدهم:

" السبب ليس المجذوب، فهو مجذوب لا يعي شيئا ، كل المشاكل تأتي من هذه" واشار بأصبعه نحو الشجرة الملعونة ..

انتفض الناس جميعا غاضبين وكأنهم منتظرين لحظة كهذا ليتحدوا ويتخلصوا من خوفهم نحو تلك الشجرة ومنها في نفس الوقت، وقرروا أن يحرقوها عن بعد حتي لا تأثر عليهم بهواجسها ، وأتوا بالمشاعل.

ولكن أختي خرجت من الجمع ودخلت الحديقة ووقفت عند الشجرة ، أخذ الناس يزعقون ويهتفون بإسمها، والحريم صرخوا متوقعين مصير الفتاة المسكينة، ولكنها قالت بصوتها الضعيف الصغير :" لن تفعل لي شيء " .

أخرجت زجاجتها وسكبت الماء عليها ، أخذت أصوات الناس تتعالي رافضين ما تفعله تلك الفتاة الجريئة ، أتجهت نحو أختي وكأني مسحور ، وأخرجت زجاجتي وأقتربت من الشجرة العملاقة دون خوف أو هلع تلك المرة .

وفعلت مثلما فعلت، وزعقت في الناس:

" أفعلوا مثلنا، اعطوا الحب لكي يموت الكره داخلها " .

**********************************************

تراصَّ الاطفال أمام جدهم وهو يسرد لهم حكاية شجرة الورد الكبيرة ، وقالوا جميعا:

" وماذا حدث ياجدي ، بعد أن فعلت البنت الجريئة ما فعلت هي وأخوها" .

قال وهو يضحك:" صدقوا الناس حديث الطفلين يا أحفادي ، وبدأوا يهتموا بالشجرة والمنزل ، وأختفي السواد من الشجرة ، وأينعت وأخرجت الزهور ذات الألوان الجميلة ، وأصبحت الحديقة مزار وملعب للأطفال والكبار ، تظلل عليهم في النهار، وتأتي بالنسيم العليل بالليل.

" وتوته توته حلوة ولا ملتوته ؟..."

ضحكوا الاطفال وصفقوا في جذل قائلين في نفس واحد " حلوة ، حلوة" .

أبتسم الجد وتذكر أخته الصغيرة التى أصبحت جدة كبيرة وشجرة الهواجس التي أصبحت شجرة الحب والورد.

تمت

أحمد الفلكي

الغردقة ..

الساعة 1:15 صباحاً.