أستيقظت فجأة دون سبب ، لم أكن أحلم بكابوس ، اعتقد أننى لم أحلم بإي شيء على الإطلاق ، نظرت إلي المنبه بجانبي كانت الساعة الرابعة.. مسحت قطرات العرق التي تسيل على جبيني ، قمت وانا مدرك تماما أنها حالة من حالات التوتر والأرق التي تهاجمني منذ فترة لا بأس بها ، اتجهت إلي المطبخ.
لا أعرف ماذا أريد؟
توقفت لحظة حائر ، ولكن يدي عالجت الموقف وأشارت نحو البراد، تذكرت أن ريقي جاف، تناولت زجاجة المياة المثلجة شربت كما لم أشرب من قبل لدرجة أن الماء من قوة أندفاعه قفز من فمي على قميصي وعلى بنطالي ، نفضت بأصبعي قطرات المياه المثلجة ، طعم المياه غير طبيعي
لا أدري لماذا؟
قلت في نفسي " هي جات على الميه" ، تركت المطبخ وتوقفت في الصالة، أقف وحيدا في المنزل ، تذكرت أمي وكم كانت تؤنس وحدتي تلك، ولكنها ذهبت كما ذهب كل شيء جميل ..
أرتميت على الاريكة ضغطت على (ريموت) التلفاز، أخذت أشاهد القنوات المملة التى تعرض كل ما هو مكرر وسخيف وملل ، ومن الغريب أنني أعرف أنه مكرر وسخيف وممل ولكني مازلت أكرر مشاهدة تلك السخافة وذلك الممل
ولا أدري إيضا لماذا؟
أمسكت تليفوني المحمول ....
القائمة --- الرسائل --- صندوق الوراد ..
" حبيبي انتي واحشني أوي"
" يا أحلي حاجة في دنيتي ..بلاش تتاخر في الرد عليا "
" أنا بحبك أوي ومقدرش أستغني عنك"
" وانا كمان يا حبيبي بحبك أوي أوي أوي "
" حبيبي أنا مش قادرة أعمل حاجة، أنا لوحدي ، أنت فين؟"
" متزعلش يا أغلي ما في عمري ، أنا هفضل ليك"
"أنا ....أنا أتخطبت الجمعة اللى فاتت ..الوداع "
صندوق الوارد --- الرسائل --- القائمة
تركت التليفون بجانبي ، تابعت برنامج سخيف على قناة فضائية ، فكرته مقلدة من برنامج أمريكي مثل كل البرامج الاخري ، برنامج مسابقات ، مسلسل عربي ، فيلم أجنبي ، فيديو كليب ، درس ديني ، فيديو كليب أجنبي .
أحسست بان شاشة التلفاز تبهت ، أو شيء ما يحدث في الإرسال، فركت عيني ثم نظرت ، لاشيء !...
عدت مرة أخري إلي سريري ، حملقت في سقف الغرفة ، عادت بي الذكريات إلي أشياء مختلطة ، الجامعة .. المدرسة .. الجيش .. العمل .. وفاة أبي ... وفاة أمي .
أغلقت عيني وجدت نفسي ابن الخامسة أتسلق ستارة جدتي المعلقة على النافذةا فوق سريرها النحاسي الكبير ، كنت لا أحب ستارتها ، ولكني كنت أتعلق بها كي أري الشارع ، وأتابع لعب الاولاد في الحارة، وما يجعلني أكرهها أكتر أنني أشم رائحتها القديمة المعتقة ، ومن تأرجحي ولهاثي يلمس لساني جلدها الخشن المترب، لم أستسيغ طعمها..ولكني كنت مضطر فأنا أهوي مشاهدة الحارة وأهلها .. جدتي تراني أتعلق في ستارتها تزعق وتصرخ وتأتي لكي تضربني .
بدأ يوم جديد وأنتهي بصعوبة يوما أخر ممل ، وجدت نفسي استقر على مكتبي في العمل .. أنظر باتجاه مديري أجده يحذرني من بطيء في العمل وسرحاني الدائم.
أجد زميلتي تمسك (ماج النسكافيه ) وتمليء فمها بالسائل الاسود المرير، وتمسك إيضا أذن زميلتنا الثالثة وتملئها بالحديث الفارغ عن هذه وهذا وهؤلاء ، أنى أسمعها.. أسمع كل حرف مهما خفضت من صوتها ، وسمعتها تتحدث عني أيضا ، وعن هدوئي الزائد عن اللزوم وعن تكشيرتي الملازمة لي أينما ذهبت .ولكني لم أبالي .
أحسست بالورق في يدي خشن كقماش ستارة جدتي .. تناولت كوب الماء امامي ، يا لها من مياه غريبة مذاقها كستارة جدتي البنية اللون وطعمها المترب القديم .
أمسك ورقة بيضاء خشنة كملمس ستارة جدتي وأكتب . "طلب اجازة "
بصعوبة بالغة وافق مديري، وفك قيود العبودية من على رقبتي وأشار لي بالذهاب ، إلي الحرية ، ولكنه ابتسم ابتسامه صفراء معناها أنني سأعود مرة أخري إليه وبنفسي سأعلق في عنقي أساور العبودية مرة أخري .
عدت إلي منزلي الصامت مثلي ، كل شيء أمامي لونه يتغير وملمسه يتغير ، الرؤية غير واضحة باهتة وكأن أمامي زجاج متسخ ، كدت أنقلب بالسيارة أكثر من مرة قبل انا أصل سالما إلي المنزل.
دخلت غرفتي ، أخرجت من الدولاب علبة كرتونية مربعة ، رأيت صوري وأنا صغير وجدتي تحملني وخلفها الستارة العتيقة ، رأيت صورتي مع والدتي ووالدتي وأنا أرتدي فانلة بيضاء وشورت رصاصي قصير ، وجوارب رصاصية وحذاء أسود لامع .
وفي قاع العلبة رأيت صورة كانت ممزقة ولكني أعدت تجميعها مرة أخري ، وهي صورة صاحبة الرسائل .
قطعت كل الصور التي أنتقل إليها ملمس ستارة جدتي الخشنة .
رأيت كل حيطان الشقة لون الستارة البنية ، لمست شفتي بلساني المتشقق ، لم أكن أحس بهما كل ما أحسسته هو قطعتي قماش خشن معتق .
صعدت إلي سطح البناية العالية تأملت الشمس التي تموت خلف الجبال آخر المدينة ، رأيتها في انفاسها الأخيرة، ولكنها ستأتي غدا وبعد غد، تمنيت أن أكون مثلها أموت وأتجدد في اليوم التالي ، أعتليت سور البناية وقفزت ، لم أري الأرض وهي تقترب ، ولم أسمع صفير الهواء يملأ أذني ، ولم أحس بجسدي وهو يتحطم والدماء تتناثر على الاسفلت الاسود، كل ما أحسست به أننى هربت من ستارة جدتي .
"تمت"