الأربعاء، 6 يناير 2010

الساقيه

دخلت المسجد الحرام مع أُمي كانت تلك المرة العاشرة التى أدخله فيها، ورغم ذلك ما زلت انظر لكل قطعة بانبهار، وأشهق بعنف عندما أري أول جزء من الكعبة المشرفة وهي تتللأ في أضواء المسجد التى تُحيل الليل نهار ،رائحة البخور منتشرة ، عبق التاريخ في كل حجر، تركتها حتي تقف في صفوف النساء ، ووقفت أنا مكاني ، مرت ثواني قليلة ثم سمعت أقامة الصلاة في مكبرات الصوت، أديت فريضة صلاة العشاء ثم بعدها صلاة التراويح، أصوات المسبحين والمستغفرين تتناغم داخل أذني مكونة سيمفونية من التعبد الهاديء الصافي ، نهضت وقابلت أمي عند باب الملك فهد ، قالت لي : "ما رأيك أن ننظر إلي الكعبة من الدور الثاني" . أبتسمت وقلت: "حسنا، معنا الليل كله إذا أردتِ ذلك".

صعدنا على السلم الكهربائي ، وتوجهنا ناحية السور، وجدنا أناس كثيرة تتأمل مثلنا الكعبة المشرفة والمعتمرين والمصلين يطوفون حولها مرددين كلمات الأستغفار والدعاء .. الأمر كله أشبة بلوحة فنية إبداعية، أو كسجادة بشرية تتحرك بسلاسة حول الكعبة ، مشهد ساحر ومبهج للنفس، أهو ذلك البيت الشريف الذي أقامته الملائكة وأتم بناءه أبونا سيدنا إبراهيم وإبنه سيدنا إسماعيل، لقد قاموا بعمل ضخما بفضل الله عز وجل، تذكرت المقولة التى سمعتها مؤخرا ، أن منذ بناء الكعبة ولم تخلي من الطائفين حولها ابدا ..إلا في الصلوات الخمس، يصلون حولها وكأنها أمهم الحنون التي تعطيهم الأمان والدفء ، فالكعبة هي نقطة مركز العالم، وفوقها البيت المعمور . وأول بيت لله على الأرض.. سمعت أمي تتمتم بدعوات كثيرة، لم أسمع منها سوي كلمات متفرقة " وفقهم، يارب ، أجمعهم ، يا غفور " .. تأملت الناس من حولي ، كثيرون هم.. وبالذات في هذا التوقيت في العشرة الأواخر من شهر رمضان الكريم ..ياله من تجمع روحاني ..لا نستطيع أن نجمع كل ذلك الجمع الغفير على كلمة حق أو في موقف متحد للمسلمين، تذكرت كلمات مدرس التاريخ الذي كان يدرس لي في الثانوية ، " أن الاستعمار رغم خروجه من بلادنا منذ زمن، لكنه حقق كل أهدافه في التفرقة وزرع الضعف فينا، وتدمير كل شيء جميل في ارضنا ونفوسنا .. وجاءت حكوماتنا لكي تكمل دور الاستعمار في وضع اللمسات الاخيرة في بورتريه الفساد.

نزعتني حركة شخص من أفكاري المختلطة مر امامي مسرعا، فتأملته جيدا، كانت فتاة دون العشرين على ما اعتقد ، ترتدي السواد . تملأ زجاجة المياه خاصتها وتأخذ بضع أكواب بلاستيكية وتذهب بها إلي السور الذي يفصل بين زوار الدور الثاني والطائفين حول الكعبة المقعدين العاجزين ، فقد تم توفير طريق دائري لأصحاب العاهات وأصحاب الكراسي المتحركة ، كانت توقف كل شخص مجهد من الطواف ، وبشكل يكاد يكون توسلاً أن تقبل منه كوب من مياه زمزم الرطب كي يخفف عنه مشقة الطواف..فيبتسم لها الرجل العجوز ويقول كلمات لا أسمعها من موضعي هذا ..

أقتربت أكثر، وجدت أطفال يتجمعون حولها ويساعدونها في حمل الاكواب.. فرغت الزجاجة فعادت لتملأها من جديد وتعود مسرعة لكي تسقي الطائفين، سعدت بعملها هذا ، رغم بساطته ولكنه عظيم جدا، تحمست للفكرة وذهبت لأمي التي كانت غارقة في ملكوت الله بمعني الكلمة، أخذت منها زجاجة الماء التي معنا ، وقلدتها وأخذت الأكواب الفارغة وبدأت أن أسقي الذي يساعدون العجزة في تحريك الكراسي المتحركة، أسرعت هي في حركتها وكذلك أنا .. وكأنها سباق في عمل الخير، عادت كي تملأ الزجاجة ..وتابعتها بعيني لأني لمحت ظابط أمن يتحرك ناحيتها وهو متجهم .. وجدته يشير بأصبعه وكأنها علامة تحذير ، لم تعيره اي اهتمام وظلت تملأ الزجاجة مما أثار غضبه

وأنتزع منها الزجاجة ، اتجهت نحوهم وانا متوتر ومنزعج ، وسألته عن سبب تصرفه هذا ، قال لي بعصبيه" ممنوع أن تملأ من هذه الفناطيس".. قلت له " أنها تقوم بسقاية الطائفين ، لماذا تفعل هذا معها ".. قال لي وهو يريد أن ينهي الحدث" ممنوع ياشيخ قلت لك هذا " ..وتركنا وذهب ، أستغفرت ربي العظيم في سري ،ونظرت لها وتعجبت فقد كانت جالسه القرفصاء منذ أن أخذ من الزجاجة عنوة ..وكأنها غير مصدقة أن عملها أنتهي إلي هذ الحد، رأيت عضلات وجهها تتقلص وتنبسط كأنها تريد البكاء ، أشفقت عليها ، نظرت إلي زجاجتي وجدتها مليئة ، فناديتها وقلت" يا اختاه، خذي زجاجتي أنها مازال بها ماء"

نهضت واخذت مني الزجاجة وهي تنظر في الأرض.. وقالت بصوت خفيض كلمة سمعتها بالكاد وترجمها عقلي "شكرا"..

قلت لها " لا شكرا على واجب".

أخذت أكواب فارغة وعادت إلي السور ومارست ما كانت تفعله في البداية .. وجدت نفسي بلا زجاجة ، ولكني صممت أن أستمر وملئت ثلاثة أكواب وأخذتهم ناحية السور ولكن من جهه أخري،

تأملت رجلا هرما جالسا على كرسي متحرك ، يكاد يستطيع أن يرفع كوب المياه إلي فمه ويده كلها ترتعش ، ساعده الشاب الذي يدفع كرسيه في الشراب، وبعد أن انتهي أعطاني الشاب الكوب فقلت له: " هل هو والدك؟"..قال: " لا" .أستطردت: " هل هو قريبك" ..قال مبتسما " لا" ..عقبت :"متطوع أذا ؟" ..قال " مثلك تماما ، شكرا جزيلا" ..تركني وأنا في حالة تفاءل شديد، مما أسرعت في عملي رغم قلته من دون الزجاجة، وجدت من يناديني وأنا أتأمل الطائفين في الدور الاول حول الكعبة الشريفة.. نظت باتجاه الصوت وجدت الفتاة الساقية وهي تعطيني الزجاجة ، لم أستطع أن أحدد جنسيتها من شكلها ولكنها تشبه الاتراك.. كانت الزجاجة ممتلئة ، قلت لها" شكرا".

قالت في خفوت " لا شكر على واجب ".

وتراجعت إلي أن ذابت في الزحام ، ولم أعد أسمع سوي تسابيح وحركة الطائفين، إلي أن وجدت أمي تأتي ناحيتي وتوقف قائلة بصوت كله نعاس " أنا أريد أن انام..هيا بنا نعد إلي الفندق"..أمسكت يدها وقبلتها وقلت لها " هيا " ..

"تمت"